(قصة قصيرة/ في خانةِ الْيِكْ)
مشهد أول : في الحديقة
شرطيٌ يتمشّى.
يشاهد رجلاً يجلس على مقعد خشبي.
يشم رائحة شيئاً يحترق.
مصدر الرائحة الرجل الجالس.
يقترب منه . يرى الدخّان يتصاعد من مؤخّرة الرجل.
يصيح الشرطي بالرجل :
" حذاري حذاري! قف حالاً ! ".
" ما بك؟" ، يسأل الرجل.
"الخشب يحرق مؤخرتك" ، يجيب الشرطي.
ينظر الرجل نحو مؤخرته ويقول :
" لا. هذه مؤخرتي تحرق الخشب".
" مؤخرتك؟ "، يجيبه الشرطي .
" نعم. مؤخرتي وكل جسدي" ، يقول الرجل.
" آه. تقصد حرارتك مرتفعة؟ كيف تأتي إلى مكان عام وحرارتك مرتفعة؟ قد تكون مصاباً بالكورونا " ، استنتج الشرطي.
قال الرجل : " بل ديني. ديني هو الذي يحترق يا
رجل ".
" أستغفر الله. دينك؟ " ، احتجّ الشرطي.
ينظر إليه الرجل بتعجّب قبل أن يفصح عمّا في باله :
" نعم ديني. وارجوك أن تتركني وشأني. جئتُ إلى هنا هارباً من كل البشر".
وبّخه الشرطي : " أترككَ وشأنك؟ كيف أتركك وشأنك وأنت الآن مُدان بتهمة الكفر؟ قل لي أيها الكافر. مِن أيِّ منطقةٍ أنت؟".
" الكفر؟ لماذا؟ أنا من بيروت" ، قال الرجل.
" نعم. الكفر. وأين تسكن؟"، سأله الشرطي.
" الحمرا" ، أجاب.
" تفضّل معي إلى التحقيق الجنائي إذن " ، صاح الشرطي.
" التحقيق الجنائي؟! لماذا؟ ماذا فعلت؟"، صرخ الرجل بغضبٍ.
" ماذا فعلت؟ وتسألني ماذا فعلت؟ اقترفتَ جريمة كبرى؟" ، أفصح الشرطي.
" أنا؟! ماذا فعلت أخبرني. إذا كان بسبب المقعد المحروق ، أعدك.غداً أشتري مقعداً آخر.
ولكن فليكن بعلمك. غيري قد حرق أوطاناً ولم تحاسبوه. لماذا تحاسبونني أنا الفقير بسبب مقعد؟ " ، احتجّ متألماً.
صاح الشرطي فوراً : " أنت لم تعتدِ على مقعدٍ خشبيٍّ فقط. أنت اعتديتَ على أسمى ما في الإنسان ، ألا وهو الإيمان".
" أنا اعتديت على الإيمان؟" ، يسأل الرجل.
" نعم أنت. ألم تقل لي أن دينك محروقٌ؟ هذا يعني أنك حرقتَ دينك. ومن يحرق دينه سيحشره الله في جهنّم وبئس المصير" ، يحشرهُ الشرطي في خانة الْيِكْ.
" تحرقون ديني وتتهمونني انا بحرقه؟" ، يخرج الرجل من خانةِ الْيِك.
" لو حافظتَ على دينك ، لما استطاع أحد أن يحرقه، لكنك إنسان كافر. شرّعت دينك للنيران " ، يعيده الشرطي إلى الخانة.
" حسناً. ماذا تريد الآن؟ أرجوك اتركني أجلس لوحدي قليلاً. أنا متعبٌ " ، يتألم الرجل.
يرد الشرطي : " ستجلس. ستجلس لوحدك أعدك ".
" شكراً لك" ، يبتسم الرجل متنفساً الصعداء.
" ستجلس لكن في السجن" ، يُكمِل الشرطي.
" في السجن؟" ، يصيح الرجل.
" نعم " ، يقول الشرطي ، ثم يضع أصفاداً بيدي
الرجل ، ويسحبه بقوة : " تعال معي أيها الكافر ".
مشهد ثاني : في غرفةِ التحقيق
المحقِّق : " دينك؟"
المُتّهم : " محروق"
المحقِّق : " أقصد من أي دينٍ أنت؟"
المتّهم : " من الرماد".
المحقق : " ألا تعرف ما دينك؟ "
المتهم : " وكيف أعرف وهو محروق؟".
يهمس المحقّق بإذن المدوّن ، ثم يكمل أسئلته :
" وكيف حرقته؟"
المتّهم : " لستُ أنا الذي حرقتَه".
المحقِّق : " من حرقه إذن؟"
المتّهم : " البلد".
المحقِّق : " من تحديداً في البلد؟" .
المتهم : " الدولة. الناس. الكهرباء. الفوضى. الفساد. زحمة السير الخانقة. النظام المصرفي. تُجّار الهيكل. وبالأخص هذا النظام الطائفي الشنيع ".
المحقّق : " ومن تحديداً في النظام الطائفي؟".
المتهم : " ماذا تقصد؟".
المحقّق : " أقصد أي طائفة حرقت دينك بالتحديد؟"
(جُل هم المحقّق أن يعرف الإنتماء الديني للمُتَّهَم).
المتهم : " لا أقصد طائفة معيّنة. مبدأ الطائفية كله حرق ديني ودين الناس".
ينظر المحقّق باتجاه المدوّن ويقول له :
" سجِّل عندك أيها المدوِّن. هذا رجلٌ كافرٌ".
ثم يعود وينظر باتجاه المتهم ويسأله :
" ولماذا لم تهاجر مثلما هاجر غيرك؟"
المتهم : " أنا؟ لا! أنا لا أترك وطني؟ "
يعود وينظر المحقّق في المدوّن ويقول :
" وسجِّل عندك. هو أحمقٌ أيضاً " .
وبعد دقيقةٍ من الصَمْت ، يصرخ المحقِّق :
" وجدتها ".
ثم يحدّق في المتهم ويسأله :
" أبوك من أي دين؟"
" أبي؟ لقد أورثني دينه المحروق" ، قال المتّهَم.
" يعني أنت كافرٌ أباً عن جَد" ، استخلص المحقِّق.
" حسناً. مثلما تريد. أنا كافر " ، يئس المتهَم.
ثم أردف : " لكن سجِّل عندك".
"ماذا أسجّل؟" ، قال المدوِّن.
" أنا كافرٌ منذ العام 1948".
كادت النيران أن تخرج من أرنبتي المحقِّق.
وقف يريد صفع المتّهَم. لكنه تماسك أعصابه في الثانية الأخيرة قبل الإنقضاض ، وعاد وجلس.
في هذه الأثناء ، كان أعوان المحقِّق يبحثون في وزارة العدل عن سجلات المتَّهم الشخصية.
جاءَ أحدهم حاملاً ملفاً في يده ، وأعطى الملف للمحقق.
تفحّص المحقق الملف ، ثم سحب ورقةً منه ،
وشهرها بوجه المُتهم قائلاً ، بابتسامة نصر على محيّاه :
" أخيرا أيها المحتال عرفنا مذهبك. مذكورٌ هنا في إخراج قيدك".
نظر المتهم بعيني المحقّق وقال :
" أنتَ قلتها. قيدي. يعني سجني. وأنا رجلٌ لا أحب السجون ولا القيود. أعطني الورقة لأرى".
" عليك أن تحب السجون لأنك ستعتاد عليها قريباً" ، هدّده الشرطي.
ثم ناول الورقة للمتهم.
ما إن لامسها المتهم بأصابعه حتى أضرِمَت فيها النار.
أثار هذا السحر العجيب حيرة المحقّق.
وبعد لحظة صمتٍ مثيرة ، قرّب المتهم الورقة المشتعلة نحو وجه المحقِّق المذهول ، وقال له :
" أنظر إلى الخانة مقابل كلمة المذهب ".
ونظر المحقِّق إلى الخانة .
فسأله المتهم : " والآن قُل لي ماذا ترى".
أجابه الشرطي : " ماذا أرى؟ لا أرى في تلك الخانة إلا حريقاً ورماداً ودخان".
ابتسم المتّهم بتهكّمٍ ممزوج بمرارة ، ثم قرّب فمه من إذن المحقّق ، وهمس :
"وهكذا بالضبط ما فعلته تلك الخانة بوطني".
( ربيع دهام)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire